إخلاص طمليه*
يختلف انعكاس الأزمات الاقتصادية باختلاف الزمان والمكان والمسببات، وقد شهد العالم خلال الفترة الماضية تطورات متسارعة تمثلت في تداعيات جائحة كورونا التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، وكذلك التطورات الدولية الراهنة وأثرها على تضخم أسعار الغذاء، وأمن الطاقة واستقرار الأسواق المالية العالمية، ما دفع البنوك المركزية العالمية لرفع سعر الفائدة عدة مرات، ومن بينها الفيدرالي الأميركي الذي رفع أسعار الفائدة على الأموال الاتحادية في مايو /أيار من هذا العام، بمقدار 25 نقطة أساس، وهي الزيادة العاشرة على التوالي منذ مارس/آذار 2022 لتصل أسعار الفائدة الأمريكية لأعلى مستوى لها منذ عام 2006.
التأثير المباشر لرفع الفائدة
يتسم الاقتصاد الفلسطيني بأنه اقتصاد صغير ومفتوح، يعتمد نظاماً نقدياً متعدد العملات: الدولار الأميركي، والدينار الأردني، والشيقل الإسرائيلي، وقد واصلت الدول المصدرة للعملات الثلاث المستخدمة في النظام النقدي الفلسطيني سياساتها النقدية الانكماشية في محاولة لكبح جماح التضخم، وارتفاع أسعار السلع الأولية لترتفع أسعار الفائدة الرسمية في بداية أيار 2023 إلى 5.25% في الولايات المتحدة الأمريكية، و7.5% في الأردن، و4.75 % في اسرائيل. ومن المرجح إبقاء البنوك المركزية على سياستها التشددية لخفض معدلات التضخم المرتفعة خلال هذا العام.
وعلى مستوى السوق الفلسطيني أثرت هذه الارتفاعات على تكلفة الاقتراض للأفراد والشركات، ما يقلل الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، وقد يؤدي بالتالي إلى تراجع الإنتاج والطلب الكلي، وتحجيم التوسعات الصناعية والاستثمارية، نتيجة ارتفاع أسعار الواردات المقومة بالدولار، أو مقومة بعملات مرتبطة بالدولار، وقد يؤدي إلى انخفاض التضخم، وإذا استمر انخفاض التضخم يدخل الاقتصاد في حالة من الانكماش والركود الاقتصادي.
الشكل 1: معدلات الفائدة في فلسطين مقارنة بالدول المصدرة للعملات.
المصدر: سلطة النقد الفلسطينية، .2023 تقرير التضخم: الربع الأول .2023 رام الله-فلسطين.
صعوبات لدى المقترضين
واجه المقترضون بشكل عام والموظفون العموميون بشكل خاص تأثيرات مباشرة ومركبة عند ارتفاع أسعار الفائدة، حيث ازدادت الأقساط الشهرية على القروض والائتمان، ما شكل عبأ كبيراً على جمهور المقترضين وأدت هذه الزيادة إلى تآكل رواتب الموظفين لصالح الفائدة الآخذة في الازدياد أو تعثر الكثير عن السداد بالتزامن مع عدم تمكن الحكومة الفلسطينية من صرف رواتب الموظفين العموميين كاملة في ظل الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار معظم السلع والخدمات الأساسية، وما لحقها من تباطؤ في النمو الاقتصادي الذي ترافق مع حصار احتلالي وغياب أفق سياسي.
تظهر تبعات رفع سعر الفائدة كذلك على جميع القطاعات الاقتصادية، والقطاع العام ليس بمعزل عن هذه التأثيرات حيث ارتفعت تكلفة الاقتراض الداخلي للحكومة الفلسطينية بهدف سد عجز الموازنة العامة، الأمر الذي أدى إلى زيادة أعباء الدين العام، نتيجة ارتفاع رفع سعر الفائدة، وبالتالي ارتفاع تكلفة الاقتراض الحكومي.
مبادرة مبتكرة
هذا الارتفاع في الفوائد البنكية وما سببه من عبء على المقترضين استوجب على جمعية البنوك في فلسطين بالشراكة مع سلطة النقد الفلسطينية التفكير في إيجاد سُبل مبتكرة وسريعة لإعداد مبادرة بنكية طوعية أكثر مرونة لتواكب الواقع سريع التغير، وتصبح أكثر تكيفاً وديناميكية في مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية. وقد شارك في المبادرة جميع البنوك العاملة في فلسطين انطلاقاً من وعيهم المبكر بالضغوطات المالية المركبة على المواطنين وحسهم الأصيل بمسؤولياتهم الاجتماعية.
ومن الجدير بالذكر أن المبادرة تزامنت في التوقيت مع أحداث عالمية مؤسفة تمثلت في إفلاس ثلاث بنوك أمريكية كبرى وهي بنك "سيجنتشر"، و"سيلفرجيت كابيتال بنك" و"سيليكون فالي بنك"، ففي الوقت الذي يعاني منه الجهاز المصرفي العالمي، بما يهدد المستثمرين والمودعين. ظهرت متانة الجهاز المصرفي الفلسطيني، بسبب التزام البنوك العاملة في فلسطين في إجراءات التحوط للسيولة المالية، وتدني نسبة التعثر في التسهيلات المصرفية.
لذا أعلنت جمعية البنوك في فلسطين بتاريخ 29/03/2023 عن مبادرة مبتكرة هدفها تخفيف العبء عن المقترضين في ظل ارتفاع معدلات الفائدة عليهم، هدفها تخفيف الكلفة على المواطن، من خلال إعادة تقييم الارتفاعات في نسب الفوائد للمقترضين الأفراد الحاليين والحاصلين على قروض شخصية و/ أو سكنية ذات الفائدة المتغيرة ولكل عملة وتخفيضها. هذه المبادرة دخلت حيز التنفيذ في بداية ابريل/ نيسان وتنتهي مع نهاية العام الجاري 2023.
ومن أهم بنود المبادرة اعادة تقييم الارتفاعات في نسب الفوائد للمقترضين الأفراد الحاليين من القرض السكني بحد اقصى 150 نقطة أساس[1] عن سعر الفائدة للعميل في 30 حزيران /يونيو في عام 2022، وكما سيتم إعادة تقييم فائدة القرض الشخصي بحيث لا تتجاوز 200 نقطة أساس عما كان عليه سعر الفائدة للعميل في 30 حزيران/ يونيو في عام 2022، كما تضمن المبادرة بألا تقوم البنوك بعكس أية زيادات مستقبلية تتم على الفوائد لغاية نهاية العام 2023، ويمكن للمقترض إعادة جدولة القروض دون استيفاء لأي عمولات منح أو سداد مبكر.
كما توفر المبادرة الإمكانية لمن يرغب من مقترضي القطاع العام للحصول على جاري مدين مؤقت (غير دوار) بنسبة فائدة ثابتة 3% وبسقف راتبين أو رصيد المستحقات لدى السلطة الوطنية أيهما أقل، وبحيث يستغل هذا التمويل الإضافي حصراً لسداد الأقساط المستحقة.
حلول فعالة
ظهرت فعالية المبادرة في تخفيف عبء الأقساط على جمهور المقترضين منذ الشهر الأول لتنفيذها، حيث بلغ إجمالي محفظة التسهيلات الائتمانية حوالي 11.2 مليار دولار، أما نسبتها بالنسبة للودائع البنكية تبلغ 66.8% مما يدلل على نسبة تحوط عالية لدى البنوك الفلسطينية، والتزامها بمعايير الائتمان الآمن.
يذكر أن اجمالي القروض الشخصية والسكنية للأفراد في شهر آذار بلغت حوالي (4) مليارات دولار أمريكي وشكلت 46% من اجمالي التسهيلات المقدمة للقطاع الخاص.
من ناحية أخرى، فإن تدني فائدة الإيداع في البنوك العاملة في فلسطين، يعني تراجع القوة الشرائية للمدخرات والودائع وهو ما يؤثر على رغبة الأفراد في الادخار، وبالتالي لا يتم سحب السيولة الفائضة من السوق، ويؤدي إلى حلقة جديدة من التضخم. وبالعودة إلى الإحصاءات فإن الودائع تراجعت في الربع الأول من عام 2023 بنسبة 2.2% على أساس سنوي، أما محفظة التسهيلات فقد نمت بنسبة 3.7% على أساس سنوي. ما يدلل على عزوف الأفراد عن إيداع أموالهم الفائضة لدى البنوك العاملة في فلسطين.
في الختام، فإن الاقتراض المدروس وسيلة لحفظ حقوق الطرفين، لذا على المقترض الانتباه لبعض المعايير التي تجنبه الوقوع في التعثر، لذا نوصي المقترض بمراعاة قواعد الاقتراض الآمن وهي كما يلي:
أولا: يجب أن تكون قيمة القرض في الحدود الدنيا، لأنه كلما زاد مبلغ القرض زادت تكلفة اقتراضه. ثانيا: لا يؤخذ القرض أبداً إلا للضرورة القصوى بحيث أن الاقتراض بهدف الاستهلاك عبارة عن ترحيل المشكلة للمستقبل.
ثالثا: على طالب القرض أن يقلل عدد سنوات سداد القرض قدر الإمكان حيث كلما زادت عدد السنوات زادت تكلفة القرض.
رابعا: يجب التدقيق بنوع الفائدة المترتبة على القرض إذا كانت مركبة بشكل تراكمي أو متناقصة وتكلفة القرض في كل منهما.
[1] نقطة الأساس “Basis points (BPS)” هي وحدة قياس لمعدلات الفائدة المصرفية وتستخدم لحساب التغييرات فيها. وكل 1% تغيير في سعر الفائدة يقابله تغير بمقدار 100 نقطة أساس.
*باحثة اقتصادية