الرئيسية » مقالات وتقارير »
 

القطاع المصرفي الفلسطيني ركيزة التنمية المستدامة

 

إخلاص طمليه*

يعتبر القطاع المصرفي الفلسطيني شريان التمويل الرئيس للتنمية الاقتصادية الفلسطينية، والضامن الأساسي لتوفير كافة الخدمات المالية التي تحتاجها مختلف الأنشطة الاقتصادية ومختلف الشرائح الاجتماعية. وهو المعول عليه في خطط التنمية كمصدر أساسي للتمويل سواء للقطاع الخاص أو القطاع العام.

نهدف في هذا المقال إلى إلقاء الضوء على دور القطاع المصرفي الفلسطيني في تعزيز ورفع معدل النمو الاقتصادي، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويأتي ذلك من خلال تحليل المؤشرات المصرفية والمالية المختلفة للقطاع المصرفي، ومدى انعكاسها على مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتحليل التغييرات في المسؤولية المصرفية للمجتمع الفلسطيني والقطاعات المستهدفة.

نمو كلي مستدام

تعد التنمية المستدامة عملية ديناميكية تستلزم تحفيز الإرادة الوطنية، وحشد الموارد البشرية والمادية اللازمة، من اجل إحداث التغيير المنشود بالنمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة والرفاه للمجتمع. لذا هدفت سياسات سلطة النقد في العامين الماضيين إلى ضخ مزيد من السيولة النقدية في الاقتصاد المحلي، إما من خلال توفير التمويل المطلوب لسد عجز موازنة الحكومة الفلسطينية، أو من خلال توجيه القطاع المصرفي للتوسع في منح الائتمان للمشاريع الإنتاجية ومشاريع البنية التحتية، وتسهيل متطلبات تأسيس والدخول في شراكات مع مستثمرين في مجال الطاقة المتجددة والتحول الرقمي بما يسهم في إنعاش الاقتصاد المحلي، وعملية التنمية الاقتصادية.

تشير الإحصاءات إلى تنامي توظيف أموال المصارف في الاقتصاد المحلي الفلسطيني، والخفض التدريجي من التوظيفات الخارجية، حيث وصلت نسبة التوظيفات المحلية خلال العام 2022، 79.3%[1]، فيما لم تتعد نسبتها 31.2% إلى إجمالي الودائع في عام 1996. محرزة نجاحا ملحوظ ومتواصل في إعادة ضخ اموال الودائع لخدمة الاقتصاد المحلي، توزعت بين قروض واستثمارات وايداعات وأصول ثابته، مقابل نحو 20.7% تم توظيفها في الخارج، ويكرس هذا التزايد في استخدام الأموال داخل قنوات الاقتصاد المحلي تحفيز النمو الاقتصادي.

تلعب السياسات الائتمانية دورا محوريا في تحفيز الاقتصاد الكلي، والتخفيف من بعض الظواهر الاقتصادية والاجتماعية غير المرغوبة، كالبطالة والفقر. وتستحوذ محفظة التسهيلات الائتمانية على نصيب الأسد من إجمالي الموجودات المصرفية حيث وصلت إلى حوالي 51.5% في نهاية العام 2022 مرتفعة بنحو 3 % عن عام 2021، لتصل إلى حوالي 10.6 مليار دولار. وقد اتجهت المصارف الفلسطينية إلى منح المزيد من الائتمان للقدس وقطاع غزة، كما اتجهت لتحفيز قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والقطاعات ذات الإنتاجية العالية. وركزت على بعض أنشطة اقتصادية مستدامة مثل التكنولوجيا، والتعليم، والريادة والسياحة. وذلك في إشارة إلى توجه المصارف إلى مزيد من التوظيف لمصادر أموالها في الاقتصاد المحلي بالرغم من المخاطر والتحديات.

من خلال الشكل التالي يمكن ملاحظة قوة العلاقة الخطية بين الناتج المحلي الإجمالي وقيمة التسهيلات الائتمانية المباشرة الممنوحة من المصارف العاملة في فلسطين، مما يشير إلى عمق التأثير والارتباط بين الائتمان المصرفي وإنتاجية الاقتصاد الوطني. ويلاحظ أيضاً وجود اتجاه متزايد لكلا المتغيرين عبر الزمن خلال الفترة (2008-2021) تؤكد على تأثير القطاع المصرفي في الاقتصاد الحقيقي، من خلال زيادة حجم السيولة في قنوات الاقتصاد، مما يعزز من النمو الاقتصادي ويحسن من درجة الاستقرار المالي بشكلٍ عام.

المصدر: سلطة النقد، إصدارات، بيانات سنوية، المؤشرات الاقتصادية الرئيسية.

تبرز الحاجة إلى التمويل المسؤول في أوقات الأزمات لضمان التوازن ما بين التخطيط الفعال المتماسك للسياسات المالية وما بين المرونة للتكيف مع الأزمة، والتنسيق بين القطاعات المختلفة لتجاوز الظروف المعقدة. وفي أزمة جائحة كوفيد-19 قدم القطاع البنكي نموذجا يحتذي به القطاع الخاص ارتفعت فيها مساهمة البنوك المجتمعية في القطاعات الاقتصادية المتضررة بنسبة 93.3% عن عام 2019 لتبلغ أكثر من 8.4 مليون دولار، حيث أطلقت سلطة النقد الفلسطينية صندوق "استدامة" الخاص بتوفير التمويل للمشاريع المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر المتضررة اقتصادياً بسبب جائحة كورونا، وخاصة تلك التي تديرها نساء، بحجم 425 مليون دولار. ومنحها التمويل اللازم لتغطية النفقات التشغيلية الطارئة، ودعم رأس المال العامل والاستمرار في تسديد رواتب وأجور العاملين وبالتالي تمكينهم من استمرار الإنتاج وتقديم الخدمات، بما أدى إلى احتواء الأزمة المالية المتوقعة، وتمكين أصحاب المشاريع من تجاوزها.

 

خطة تمويل تضمن عدم مزاحمة القطاع العام للخاص

من الأمور الهامة التي توضح حجم الدور الحقيقي للائتمان في النشاط الاقتصادي، إلقاء الضوء على حجم التسهيلات الممنوحة لكلٍ من القطاع العام والقطاع الخاص، وما إذا كانت الحكومة تزاحم القطاع الخاص في الحصول على الموارد المالية. ارتفعت نسبة التسهيلات الائتمانية الموجهة للقطاع الخاص من اجمالي الناتج المحلي من 20.7% في عام 2008 لتصل إلى 45.9% في عام 2021، وبنسبة 79% من اجمالي التسهيلات في نهاية العام 2022.

حيث يلاحظ من الشكل التالي أن حجم الائتمان الموجه للقطاع الخاص آخذ بالتزايد عبر الزمن خاصةً في السنوات الأخيرة. وتترافق الزيادة في الائتمان الموجه للقطاع الخاص مع ارتفاع نسبي للائتمان الموجه للقطاع العام أيضاً، نتيجة للازمة المالية التي تعاني منها الحكومة، بسبب التذبذب والتدني في حجم المساعدات الدولية المقدمة للسلطة الفلسطينية، وأزمة احتجاز الاحتلال الإسرائيلي لعائدات المقاصة.

المصدر: بيانات مجمعة من جمعية البنوك العاملة في فلسطين وسلطة النقد، إصدارات، بيانات سنوية، المؤشرات الاقتصادية الرئيسية.

ومما يؤكد على عدم وجود ظاهرة المزاحمة، أن نسبة الائتمان الممنوح للقطاع الخاص من إجمالي ودائع القطاع الخاص آخذة بالارتفاع عبر الزمن وبالتالي فان التسهيلات الممنوحة للقطاع العام تأتي في الأغلب على حساب تخفيض الأرصدة الخارجية للمصارف، وليس على حساب تخفيض الائتمان الموجه للقطاع الخاص، فتعمل السياسات المصرفية في فلسطين نحو إعادة ضخ مدخرات القطاع الخاص، لتمويل النشاط الاقتصادي المحلي، وبالتالي تحسن كبير في كفاءة وأداء دور البنوك كوسيط مالي، يعتمد على حشد المدخرات من وحدات الفائض، وإعادة توجيهها إلى وحدات العجز المالي داخل الاقتصاد.

تنمية مجتمعية مستدامة

تعد المسؤولية المجتمعية ملمحاً أساسيا من الإدارة النوعية للبنوك العاملة في فلسطين، وجزءا متمماً لاستراتيجيتها وحاكميتها الرشيدة.  وتعرف المسؤولية الاجتماعية حسب تعريف البنك الدولي بأنها: "التزام أصحاب النشاطات التجارية بالمساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيهم وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع ككل لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة ويخدم التنمية في آن واحد".[2] مما سبق نجد أن الهدف الأساسي للمسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص هو تحقيق التنمية المستدامة. وتعرف أهداف التنمية المستدامة (SDGs): بأنها عبارة عن مجموعة من 17 هدفًا وضعت من قبل منظمة الأمم المتحدة، أقرت في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر2015، وتترابط هذه الأهداف العريضة فيما بينها، وتغطي مجموعة واسعة من قضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

منذ تشرين الثاني من عام 2010 أظهر القطاع المصرفي الفلسطيني وعيا مبكرا وحسا أصيلا بمسؤولياته الاجتماعية، حيث بادر لعقد "ملتقى المسؤولية الاجتماعية الأول" الذي تم بمبادرة من سلطة النقد الفلسطينية وجمعية البنوك في فلسطين، والذي شكل حجر الأساس لتوحيد فلسفة المسؤولية الاجتماعية في إطار تنموي متكامل للقطاع المصرفي. حيث هدف إلى إيجاد إطار سياساتي للمسؤولية الاجتماعية يعزز الشراكة ما بين القطاع الخاص، والحكومي، والمدني. ومن بين المطالبات التي خرج بها الملتقى، المطالبة بإلزام البنوك بتخصيص 2% من أرباحها للمسؤولية الاجتماعية[3]، ودراسة إقامة صندوق مشترك لنشاطات المسؤولية الاجتماعية المستدامة.

تتناسب برامج المسؤولية المجتمعية المستهدفة في البنوك العاملة في فلسطين مع الأوضاع المعيشية الصعبة للغاية التي يشهدها الفلسطينيون، فوفقاً لمؤشرات الجهاز المركزي للإحصاء الأخيرة لعام 2017. فقد وصل معدل الفقر وفقا لأنماط الاستهلاك الشهري[4] إلى 29.2% في الأراضي الفلسطينية. في حين أن 41.1% من الفلسطينيين يقل دخلهم الشهري عن خط الفقر الوطني.

يوضح الشكل التالي التوزيع القطاعي لمساهمات المسؤولية الاجتماعية للبنوك العاملة في فلسطين، فقد بلغ إجمالي المساهمة المصرفية المجتمعية عام 2022، 4.9 مليون دولار بنسبة ارتفاع بلغت 2.3% عن عام 2021. تركزت المساهمات عام 2022 في قطاع الصحة 28.7 %، ثم في قطاع التعليم بنسبة 27.1%، ثم في قطاع التنمية 10.7% ثم في قطاع الإغاثة 10%، الثقافة 6.2 %، الرياضة 4%، الطفولة 3.8%، تمكين المرأة 3.4 %، الشباب والإبداع 3 %، وذوي الاحتياجات الخاصة 2.8 % على الترتيب.

 في عام 2020 ارتفعت اسهامات القطاع المصرفي بنسبة 93.3% عن عام 2019، كما يوضح الشكل التالي، حيث بلغت مساهمتها 8.4 مليون دولار، بزيادة قدرها 4 مليون دولار أكثر من عام 2019، من خلال 372 مؤسسة شريكة. تزامن هذا الارتفاع مع تفشي جائحة كورونا وما رافقها من إجراءات احترازية أدت لشلل الحركة التجارية والصناعية، واحتجاز الاحتلال عائدات المقاصة لأكثر من سبعة أشهر متتالية، أدت إلى تراجع حاد في قيمة الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين بنسبة 11.5%.

وفي إطار تعزيز التأهب في القطاع الصحي لمواجهة كورونا ارتفعت المساهمات في القطاع الصحي بقيمة 5.3 مليون دولار عن مساهمتها في عام 2019، أي بأكثر من عشرة أضعاف وذلك بالرغم من تأثر القطاع المصرفي بالآثار السلبية للجائحة. حيث تم دعم وزارة الصحة بالأجهزة والمعدات اللازمة للكشف عن فيروس كورونا، وأجهزة التنفس الاصطناعي، وحملات توعوية حول أهمية الوقاية من الإصابة بعدوى الفيروس لدى كافة فئات المجتمع من العمال في الداخل، وكبار السن، والأمهات، والأطفال، وذوي الاحتياجات الخاصة الأكثر عرضة للإصابة، وتمركز الحملات في المناطق الأقل دخلا. كما استمر دعم القطاع المصرفي للمشاريع الصحية المعتادة في دعم وتجهيز مستشفيات القدس، والتوعية حول أهمية الوقاية من مرض السكري، والتوعية بأهمية الكشف المبكر عن سرطان الثدي.

كما ضاعف القطاع المصرفي من اسهاماته في المجالات الإغاثية في عام 2020 أكثر بثلاث مرات من عام 2019، فعمل على محاربة الفقر، ودعم المساعي الإنسانية لمساندة المتعطلين عن العمل أثناء جائحة كورونا، حيث تم توفير مساعدات للأسر المتعففة والمعوزين المسجلين لدى سجلات وزارة التنمية الاجتماعية في جميع محافظات الوطن، مما أدى لدعم شبكة الأمان والحماية الاجتماعية للشرائح المتضررة من الوباء.

لم يقتصر اسهام القطاع المصرفي في القطاع الصحي والإغاثي، وانما شمل قطاعات أخرى هامة مثل التزام البنوك بدعم الجانب البيئي ضمن توجهات الصيرفة الخضراء للبنوك الفلسطينية، حيث افتتحت العديد من الحدائق الطبيعية التي تزيد المساحات الخضراء والنظيفة. كما واكبت البنوك العاملة في فلسطين البدايات الأولى للاقتصاد الأخضر في فلسطين وحرصت على الاهتمام بدعم مشاريع الطاقة المتجددة، في إطار تأكيد التزامها بتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

من ناحية أخرى، دشنت البنوك مشاريع تمكين النساء ودعمهن للحد من عدم المساواة والاقصاء الذي تتعرض له المرأة في المناطق المهمشة، من خلال دعم المشاريع الإنتاجية، ودعم البازارات التسويقية للمنتجات الريفية، وتدريب النساء على المهارات الحياتية للانخراط في سوق العمل ضمن برامج متعددة. كما توجهت البنوك لدعم العديد من مشاريع تمكين ذوي الإعاقة الذهنية والجسدية، ودعم الثقافة والموروث الثقافي الفلسطيني.

في الختام، وكما ذكرنا في بداية المقال فإن الأوضاع الإنسانية الصعبة التي نعيشها اليوم تبرز الحاجة الملحة لتوجيه مواردنا المالية نحو ما ينفع الإنسان الفلسطيني في المحافظة على حياته وصحته وتعليمه وعمله، ونستطيع أن نقول أن القطاع المصرفي الفلسطيني لعب دورا حاسما في بناء اقتصاد فلسطيني مستقر ومزدهر وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

 

 

[1] مصدر البيانات: جمعية البنوك العاملة في فلسطين، بيانات غير منشورة.

[2]  الأسرج، حسين (2012)، تفعيل دور المسؤولية الاجتماعية للشركات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية. معهد التخطيط القومي. مصر.

[3]  لا يوجد أي إلزام قانوني حالي للبنوك، أو الشركات المساهمة لتخصيص نسبة من الأرباح للمسؤولية الاجتماعية، إلا أن مساهمة البنوك العاملة في فلسطين الحالية تعد مساهمة طوعية وصلت لأكثر من 6% من اجمالي الأرباح لمشاريع المسؤولية المجتمعية في القطاعات المختلفة.

[4]  يعتمد هذا المؤشر على مستوى الاستهلاك النقدي للأسرة المعيارية، لكن لا يشمل أنواع الحرمان الأخرى مثل: حق الوصول للخدمات الصحية، حق الحصول على خدمات صحية مناسبة، الحق بالعمل اللائق، وصول جميع أفراد الأسرة لخدمات التعليم المناسبة، وجود أمراض مزمنة، وجود إعاقات، وغيرها من الحقوق التي يغفل عنها مفهوم الفقر النقدي، ويظهرها مفهوم الفقر متعدد الأبعاد.